لماذا خلق الله النار وهو أرحم الراحمين

لماذا خلق الله النار وهو أرحم الراحمين؟ لو كان الله رحيما فلماذا يجعلنا نعاني؟ إذا كان يعلم كل شيء فلماذا يختبرنا؟

لماذا خلق الله النار وهو أرحم الراحمين
لماذا خلق الله النار وهو أرحم الراحمين

حاول أستاذ الرياضيات أمريكي يدعى جيفري لانج، الإجابة عن هذه الأسئلة، وأسئلة أخرى، في كتابيه Struggling To Surrender وEven Angels Ask..

لماذا خلق الله النار وهو أرحم الراحمين؟

يقول جيفري لانج إننا إذا كنا مؤمنين بالله، فلابد أن نفترض أنَّ مفاهيمنا عن العدل والحب والعطف والتسامح والصدق والرحمة ربما تكون غير كاملة لكنها، مع ذلك، تنبع من شيء حقيقي مصدره الله تعالى.

يؤكد القرآن الكريم على أنَّ حياتنا الأرضية، مرحلة مهمة من مراحل الوجود الإنساني يقول الله تعالى: «الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض: ربنا ما خلقت هذا باطلا».

يقول الله تعالى كذلك: «ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين» ويقول الله تعالى :«أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون؟ فتعالى الله الملك الحق».

بذلك ربط القرآن الكريم سعادتنا ومعاناتنا في الدنيا والآخرة باعتقاداتنا وتحققها في علاقاتنا الإنسانية، إذ لا يمكن للإنسان أن يتذوق الجنة أو يصلح للحياة فيها حتى يترقى إلى درجة من الخيرية تمكنه من ذلك. وطبعا ، ليس المقصود هنا الوصول للكمال، لكن ما يكفي لأن يكون الإنسان مستعدًا حين يُكشف له عن غرض الحياة الأرضية، أما ما تبقى بعد ذلك من نقائص فإنها تزال وتمسح «ونزعنا ما في صدورهم من غل».

ومن ثم فالهدف الحقيقي من الحياة هو الترقي في درجات الفضيلة والحكمة والعدل والرحمة والصبر والكرم. وعلينا أن نسعى لاكتساب هذه الصفات الراقية ، التي هي من صفات المؤمنين، ليس فقط لجعل العالم مكانًا أفضل، وإنما لاعتقادنا أنها حقائق سامية ترجع إلى صفات الله سبحانه وتعالى. وكلما طورنا من هذه الصفات زادت قدرتنا على استقبال واختبار رحمة الله وغفرانه وعدله، وأصبحنا أكثر قربًا من الله سبحانه وتعالى.

كلما اختبرنا الحب الإنساني، زادت قدرتنا على اختبار وتذوق الحب الإلهي. يقول جيفري لانج إنَّ تذوق أطفاله لحبه لهم، وتجربتهم مع هذا الحب أكبر من تجربة حبه لكلبه، لأن الطفل يعرف الحب على مستوى أعلى من الكلب. وشعور الكلب بحبه، أكبر من شعور السمكة بذلك الحب. وأنَّ حبه لأبويه الآن أكبر من حبه لهما عندما كان طفلا، لأنه عندما أنجب صار أكثر قدرة على تجربة أحاسيس المحبة التي أعطيت له عندما كان طفلاً صغيرا. هذا يعني انه كلما وسع الإنسان من قدرته على ممارسة الفضائل وزيادة الإحساس بها، زادت قدرته على الشعور بعظمة الله وجماله، هنا وفي الآخرة.

يصف القرآن الكريم يوم القيامة بأنه لحظة من كثافة الإدراك تتضح فيها حقيقة كفاحنا في الأرض «فبصرك اليوم حديد». في ذلك اليوم، أي يوم القيامة سوف تواجهنا حقيقة ما أصبحنا عليه، وتنجلي كل الأوهام والمشتتات المؤقتة ولا يبقى معنا إلا أعمالنا وإنجازاتنا الروحية والأخلاقية قال الله تعالى: «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره».

لو كان الله رحيمًا فلماذا يجعلنا نعاني؟

ليست المعاناة في الأرض أمرًا اعتباطيًا، وإنما هي أمر مرتبط بنمونا الروحي والعقلي. لكنَّ احتمالية النمو هذه يقابلها احتمالية خطر التحلل الأخلاقي. قال الله تعالى: «قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها».

لكن لماذا لم نولد ابتداءً بهذه الأخلاق في الجنة؟ لمَ لم نبرمج على هذه الأخلاق؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، يقول جيفري لانج إنَّ الفضيلة لو كانت مبرمجة فهي ليست فضيلة حقيقية، ولكنها شيء أقل من الفضيلة. يمكنك أن تبرمج حاسوبًا على ألا ينتج جمل غير صحيحة، لكنه لا يصبح بذلك حاسوبًا صادقًا. كما ان جهاز الأشعة المقطعية صُمم لمساعدة المرضى، لكن لا يمكننا وصفه بأنه جهاز رحيم.

يشدد القرآن الكريم على أنَّ هناك ثلاث مراحل أساسية للتطور الروحي والخلقي عند الإنسان: أولها الإرادة الحرة، أو القدرة على الاختيار، وثانيها العقل او(الذكاء) وهو أداة لموازنة التبعات المترتبة على اختيارات الفرد والتعلم من هذه الاختيارات، وثالثها وجود بيئة من الضراء (أو المحن أو الكبد أو المعاناة).

لكي تدرب نفسك على الصدق وعلى ان تكون صادقا، لابد أن يكون لك الخيار في أن تكذب، ومن ثم القدرة على موازنة الأمور والحكم على الأشياء. ثم إنَّك تصل إلى درجة عالية من الصدق لو أصررت على قول الحقيقة في الضراء، أي عند وجود تهديد بخسارة بدنية أو مادية قد تحيق بك. وكلما زادت المحنة زادت قيمة الصدق. إنَّ من تتعرض وظيفته للخطر لو قال الحقيقة، لا يستوي بمن تتعرض حياته للخطر لو قالها.

وينبغي أن يكون لدى الإنسان على الأقل ميل تجاه الخير من البداية، أو بذرة للخير والتقوى عند مجيئه للعالم، وهو ما يفهم به المفسرون المسلمون قوله تعالى :«ونفح فيه من روحه» وقول الرسول إنَّ كل مولود يولد على الفطرة. وفي القرآن تتكرر فكرة ضرورة المعاناة والكفاح من أجل سعينا للتطور الروحي والأخلاقي، وحاجتنا لتذكر الغرض النهائي للحياة في الأوقات الصعبة «ولنبلونكم ..»، «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبل مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ».

تتبلور هذه الفكرة في قصة خلق الإنسان المذكورة في القرآن الكريم. يلاحظ جيفري لانج في قصة الخلق، أول ما يلاحظ قول الله تعالى:«إني جاعل في الأرض خليفة». فنزول آدم للأرض كان مقررًا قبل أن يُخلق آدام ولم يكن عقابًا له.

لكن لماذا يخلق الله الإنسان ليفسد في الأرض؟

جاء هذا السؤال على لسان الملائكة أول ما علموا بهذا الخلق الجديد. قال الله تعالى:«إني أعلم ما لا تعلمون» إشارة إلى أنَّ خلق الله العليم للإنسان وحياته على الأرض جزء من خطة أكبر. ثم أجاب الله تعالى عن سؤال الملائكة جوابًا عمليًا حين علم آدم الأسماء كلها. هذا الإنسان الذي تعلم أسماء الأشياء كلها قادر، إذن، على التعلم واكتساب المعرفة اللازمة والمراكمة العلمية وتوصيل خبراته ومعارفه. وبفضل تلك الخاصية إنما أصبح الإنسان مهيأً للقيام بوظيفته.

علم الله ما يبديه سؤال الملائكة من قابلية الإنسان لفعل الشر وسفك الدماء، وعلم أيضًا ما يخفي السؤال من قدرة هذا الإنسان على النمو الأخلاقي والفكري. في النهاية، سجد الملائكة لآدم إقرارًا بأنَّ الإنسان أكثر تعقيدًا مما ظنوا وأنَّ بإمكان هذا الإنسان أن يكون أرقى منهم.

في القصة أمور أخرى لاحظها العالم جيفري لانج، منها أنَّ الشجرة تبدو كما لو كانت عشوائية وغير مميزة. ولم يكن النهي مصحوبًا بتهديد ووعيد شديدين. ووصف القرآن فعل الأكل من الشجرة بأنه زلل «فأزلهما الشيطان».

ولما أكل آدم من الشجرة وتاب قبل الله توبته قال الله تعالى: «فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم». لم يكن بقاء آدم في الأرض عقوبة لأنَّ الله تاب عليه من قبل ان يهبط الى الارض. ظل آدم في الأرض لأنَّ الله خلقه للأرض، ولم تكن فترة الجنة إلا فترة إستعداد وعلمه فيها الأسماء كلها، ثم اختبره فيها. كان أكل آدم من الشجرة علامة على أنه الآن، بعد أن امتلك المعرفة، صار يملك حرية الإرادة، وبذلك أصبح مؤهلاً لاتخاذ القرارات الأخلاقية.

يقول لانج إنَّ الإنسان يتعلم ويرتقي في درجات الخير عن طريق التجربة والخطأ والسمو فوق أخطائه. وبهذه الطريقة يكون الخطأ، لو تم إدراكه والتوبة منه بإخلاص طريقًا مؤديًا في النهاية إلى درجة أعلى قال الله تعالى:«إلا من تاب وآمن وعمل صالحا».

إنَّ روحانيتنا سوف تصاب بالركود دون إمكانية الخطأ وإدراكه ثم إصلاحه. هذه العوامل مهمة إلى درجة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم غيركم .. ".

والآيات في القرآن التي تتكلم عن أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء لا تعني إغواء الله لهم، وإنما تركهم يضلون. أي لا يريهم طريق الخروج من هذه الورطة قال تعالى: «ويذرهم في طغيانهم يعمهون».

إنَّ الصورة الذهنية التي يرسمها القرآن الكريم عن الهداية والخطأ تشبه صورة مسافر في صحراء لامتناهية بحثًا عن هدفه. هذا المسافر هو الإنسان في رحلة الحياة.

ونجد في القرآن الكريم ذكرًا كثيرًا لمن يتلقى الهداية بناء على اختياراته فالله تعالى قال: «لا يهدي القوم الظالمين» وقال كذلك:«لا يهدي كيد الخائنين» وقال:«إنَّ الله لا يهدي من هو مسرف كذاب»، وقال:«والذين اهتدوا زادهم هدى».

وبحسب القرآن الكريم فإنَّ الإنسان هو المستفيد الأول من الهداية والأعمال الصالحة، وهو أيضًا المتضرر الأكبر من الذنوب. قال تعالى : «ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين».

فالدين الإسلامي يرى الذنب فعلاً من أفعال تدمير الذات وتمردًا ضد الطبيعة الحقيقية للإنسان.

المصادر:
 لجيفري لانج، أستاذ الرياضيات أمريكي.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال